الخميس، ٧ كانون الثاني ٢٠١٠

جريدة الغد - "مدارس أجنبية"!

في مدرسة القرية التي كنّا نعاني من لهيب غرفها صيفاً، وبرودتها القارسة شتاءً، لثغنا أولى أبجدياتنا باللّغة الإنجليزية.

كنّا في الصف الخامس الابتدائي عندما "قذفوا" في وجوهنا "كتيّباً" صغير الحجم، لونه أزرق، لم نستطع فكّ "طلاسمه العجيبة" على مدار أسابيع طويلة!

كانت الأحرف والكلمات أشبه ما تكون بـ"الخربشات" التي غالبا ما كنّا نجدها في "حُجُبٍ" و"رُقى" كنا نصادفها باستمرار قريبا من عتبات البيوت، وداخل حجارة "السناسل"، وفي شقوق البيوت الطينية التي كنّا نسكنها ولا تقينا برداً ولا حرّا.

حالتنا النفسية تحوّلت إلى مرضٍ ملازمٍ لجميعنا. كانت تحفظاتنا واضحة من النقاشات التي أجريناها بين بعضنا بعضا حول صعوبة "اللغة الجديدة" التي أرادوا منّا إتقانها بين ليلة وضحاها. لعلّنا طرحنا، حينها، تبنّي شكل رفضوي، بأن نعلن على الملأ أننا لا نريد تعلّم اللغة الإنجليزية... وإلى الأبد!

الموافقة على "الثورة" التي كنّا على وشك إطلاقها تحصّلت من الجميع... باستثناء محمد!

الذي أصرّ على أن الإنجليزية "لغة سهلة"، وأنه سوف يتقنها خلال أسابيع قليلة. لم يكتفِ بذلك، بل وصفنا جميعا بأنّ لنا عقولاً متبلّدة، وأننا "لن نفلح في شيء ما حيينا".

كانت كلمات قاسية من "زميل سراحة ومدرسة"، وضعنا فيها أمام غبائنا "الفطري" الذي لا يمكن تجاوزه إلا بمعجزة.

محمد كان مخلصا لفكرته أنّ باستطاعته إتقان "اللغة الجديدة" في أسابيع قليلة؛ كان يرفض التحدّث معنا إلا بـ"إنجليزية فصيحة"، قال إنه "يطوّرها" باستمرار من متابعته للإذاعة البريطانية التي تبثّ برامج تقوية، وتسهم في تقوية لغة التخاطب.

في المدرسة، وفي جميع الأوقات، كان محمد لا يكفّ عن التعالي علينا؛ حين نتصرّف بـ"شيطنة" يرمقنا بنظرات نارية، ويطلق سيلاً من الكلمات غير المفهومة لنا، وحين نسأله عنها، يقول إنها "شتائم إنجليزية"، لكنّه يرفض أن يعلن معناها.

وحين نتصرف بطيبةٍ، ترتسم على وجههِ "ابتسامة دبلوماسية"، ويتلفظ بعباراتٍ، يبدو وقعها جميلا على أسماعنا، وهو يهزّ رأسه برضىً، فنسأله عن المعنى الذي "في قلب الشاعر"، ليقول إنها عبارات مديح رائجة عند الإنجليز الذين يعرف جميع طبائعهم.

مشى محمد طويلا في طريق "اختصاره للغة والحضارة الإنجليزيتين"، وكنّا، نحنُ، نحسده كلمّا تمخّضت قريحته عن جملةٍ، يخبرنا بفحواها العامّ فقط، وليس بمعناها الحرْفيِّ.

المشكلة أن محمداً كان من بين القلائل الذي رسبوا في اللغة الإنجليزية في ذلك العام! ونتذكّر جميعنا يوم سمعه أستاذ اللغة الإنجليزية وهو "يجلدنا" بعباراته "الملغومة"، ليقف أمامه وهو يقهقه بصوتٍ عالٍ ويقول "عفيه محمد... خريج مدارس أجنبية يا (...)!".

محمد "اكتفى من الغنيمة بالإياب"، فترك المدرسة في سنٍّ مبكرةٍ للتفرّغ لغنمات والده، ثمّ بعدها التحق بالجيش.

التقيته قبل أسابيع قليلة. كان في غاية السعادة بعد أن "لحّق التقاعد". لكنّه لم يترك عادته القديمة بعد. كان نصف كلامه باللغة الإنجليزية. هذه المرة كانت كلماته لها ما يقابلها باللغة... رغم أنها مجرد كلمات مجزوءة.

موفق ملكاوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق